عزام ل "مصر الآن "ترامب يعاقب أوروبا "حرب جديدة عبر الأطلسي "في العصر الرقمي (2)
قال الكاتب الصحفي حسن عزام لموقع " مصر الآن "أن المنظمات غير الحكومية المستهدفة بالعقوبات، مثل مركز مكافحة الكراهية الرقمية ومؤشر المعلومات المضللة ومنظمة HateAid، تلعب دورا مهما في البيئة الأوروبية من خلال توثيق ورصد انتشار الكراهية والتضليل على الإنترنت، وتقديم الدعم للضحايا، والضغط من أجل سياسات أكثر صرامة. هذه المنظمات غالبا ما تعمل بشكل وثيق مع صانعي السياسات والمنصات الرقمية لتحديد المحتوى الإشكالي والتوصية بإجراءات للتعامل معه. من وجهة نظر مؤيديهم، فإن عملهم ضروري لحماية الفئات المستضعفة ومنع انتشار الأيديولوجيات المتطرفة والحفاظ على نقاش عام صحي. لكن من وجهة نظر منتقديهم، وخاصة في أوساط اليمين الأمريكي، فإن هذه المنظمات تعمل كذراع غير رسمي للحكومات الأوروبية لفرض الرقابة على المحتوى الذي لا يتوافق مع الأجندة الليبرالية، وتستخدم نفوذها للضغط على شركات التكنولوجيا لقمع الأصوات المحافظة والآراء غير المرغوب فيها سياسيا.
وأضاف عزام أن هذا الخلاف ليس مجرد نزاع تقني أو قانوني، بل يعكس صراعا أعمق حول القوة والسيادة في العصر الرقمي. شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة تهيمن على الفضاء الرقمي العالمي، وتصل خدماتها إلى مليارات المستخدمين في جميع أنحاء العالم. هذا يثير تساؤلات صعبة حول مدى قدرة الحكومات الوطنية أو الإقليمية على تنظيم هذه المنصات وفرض قواعدها الخاصة. الاتحاد الأوروبي، من خلال قوانين مثل قانون الخدمات الرقمية والقانون العام لحماية البيانات قبله، يحاول تأكيد سيادته الرقمية وفرض معاييره على الشركات التي تعمل في أسواقه، حتى لو كانت هذه الشركات مقرها في الولايات المتحدة. من جهة أخرى، تنظر الإدارة الأمريكية إلى هذه المحاولات على أنها تدخل غير مشروع يتجاوز الحدود الإقليمية ويستهدف الشركات والحريات الأمريكية.
وأشار إلى أن العقوبات المفروضة على الأفراد الأوروبيين تمثل تصعيدا دراماتيكيا في هذا الصراع، وتثير تساؤلات حول فعاليتها وعواقبها المحتملة. من الناحية العملية، حظر السفر إلى الولايات المتحدة قد لا يكون له تأثير كبير على هؤلاء الأفراد، خاصة أن معظمهم لا يشغلون مناصب حكومية رسمية وقد لا يحتاجون إلى السفر إلى أمريكا بانتظام. لكن الأهمية الرمزية للعقوبات كبيرة، حيث تشير إلى استعداد الإدارة الأمريكية لاستخدام أدوات السياسة الخارجية التقليدية في معركة حول حرية التعبير والتنظيم الرقمي، وترسل رسالة واضحة إلى الأوروبيين وغيرهم بأن واشنطن لن تقبل ما تراه تدخلا في شؤونها الداخلية أو محاولات لفرض الرقابة على الأصوات الأمريكية.
ولفت إلي أن رد الفعل الأوروبي على هذه العقوبات من المتوقع أن يكون قويا وحازما. الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه يعتبرون قانون الخدمات الرقمية وغيره من جهود تنظيم المحتوى الرقمي سياسات مشروعة تماما تهدف إلى حماية مواطنيهم وقيمهم، وليست رقابة أو تدخلا في الشؤون الأمريكية. استهداف أفراد أوروبيين بعقوبات أمريكية بسبب عملهم في مجال السياسة العامة أو المجتمع المدني يمكن أن يُنظر إليه على أنه محاولة للتخويف وتقويض السيادة الأوروبية. من المرجح أن يرفض المسؤولون الأوروبيون هذه العقوبات باعتبارها غير مبررة ومتطرفة، وقد يفكرون في إجراءات مضادة أو ردود دبلوماسية.
وأوضح أن هذا التصعيد يحدث في سياق أوسع من التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في عدد من المجالات، من التجارة إلى الدفاع إلى السياسة المناخية. عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض جلبت معها نهجا أكثر تصادمية وأحادية الجانب في العلاقات الدولية، وتراجعا عن الالتزامات متعددة الأطراف، وتركيزا أكبر على ما يراه مصالح أمريكية ضيقة. في هذا السياق، يمكن فهم العقوبات على الأفراد الأوروبيين كجزء من استراتيجية أوسع لتأكيد القوة الأمريكية ومقاومة ما تراه الإدارة محاولات من القوى الأجنبية للحد من الحريات الأمريكية أو فرض معايير غير أمريكية.
وقال في الوقت نفسه، هناك أسئلة مشروعة حول التوازن الصحيح بين حرية التعبير ومسؤولية المنصات الرقمية في منع الضرر. انتشار المعلومات المضللة والكراهية والتطرف على الإنترنت يمثل تحديات حقيقية للديمقراطيات في جميع أنحاء العالم، وقد ساهم في تأجيج العنف والاستقطاب السياسي وتقويض الثقة في المؤسسات. السؤال عن كيفية التعامل مع هذه التحديات دون المساس بحرية التعبير والحق في الوصول إلى المعلومات هو سؤال معقد وليس له إجابات سهلة. النموذج الأمريكي الذي يتبنى نهجا متسامحا للغاية مع الكلام ويعتمد بشكل أساسي على آليات السوق والرقابة الذاتية له مزاياه، لكنه أيضا سمح بانتشار المحتوى الضار والمضلل على نطاق واسع. النموذج الأوروبي الذي يتبنى نهجا أكثر تنظيما يمكن أن يوفر حماية أفضل ضد بعض أشكال الضرر، لكنه يحمل أيضا مخاطر الإفراط في التنظيم والرقابة غير المبررة.
ما يحتاجه العالم هو حوار بناء ومحترم حول هذه القضايا المعقدة، وليس تبادل الاتهامات والعقوبات. الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، على الرغم من اختلافاتهم، يشتركون في التزامات أساسية بالديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون. بدلا من النظر إلى بعضهم البعض كخصوم أو تهديدات، ينبغي عليهم العمل معا لتطوير أطر عمل مشتركة تحترم التقاليد القانونية والثقافية المختلفة بينما تعالج التحديات المشتركة في العصر الرقمي. العقوبات المفروضة على الأفراد الأوروبيين تسير في الاتجاه المعاكس تماما، وتخاطر بتعميق الانقسامات وتقويض التعاون عبر الأطلسي في وقت حرج.
وأختتم أنه ومن الجدير بالذكر أيضا أن هذا الصراع حول تنظيم المحتوى الرقمي يحدث في وقت تشهد فيه البيئة الإعلامية الأمريكية نفسها تحولات عميقة. بعض المنصات الكبيرة، تحت ضغط من اليمين السياسي واتهامات بالتحيز ضد الأصوات المحافظة، بدأت في التراجع عن سياسات الإشراف على المحتوى والحد من الجهود المبذولة لمكافحة المعلومات المضللة. في الوقت نفسه، هناك قلق متزايد بين الديمقراطيين والليبراليين من أن المنصات لا تفعل ما يكفي لمنع انتشار المحتوى الضار والحفاظ على سلامة النقاش العام. هذا الاستقطاب الداخلي في الولايات المتحدة يعقد الصورة ويجعل من الصعب تحقيق توافق وطني حول هذه القضايا، ناهيك عن التوصل إلى تفاهم دولي.
في نهاية المطاف، القضية الأساسية هي من يملك السلطة لتحديد قواعد الفضاء الرقمي العالمي وكيف ينبغي استخدام هذه السلطة. هل يجب أن تكون للشركات الخاصة الحرية المطلقة في تحديد ما هو مسموح وما هو محظور على منصاتها، حتى لو أدى ذلك إلى انتشار الضرر؟ أم يجب أن تلعب الحكومات دورا أكبر في تنظيم هذه المنصات لحماية المواطنين والديمقراطية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فأي حكومات لها الحق في فرض قواعدها على منصات تعمل عبر الحدود وتخدم جماهير عالمية؟ هذه أسئلة لا يمكن الإجابة عليها من خلال الخطاب التصادمي أو العقوبات الأحادية الجانب، بل تتطلب حوارا صادقا واحتراما للاختلافات المشروعة في القيم والأولويات.
العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على الأفراد الأوروبيين تمثل لحظة مهمة ومثيرة للقلق في تطور هذا النقاش العالمي. إنها تكشف عمق الخلافات بين النهج الأمريكي والأوروبي لحرية التعبير والتنظيم الرقمي، وتشير إلى استعداد بعض القادة الأمريكيين لاستخدام أدوات السياسة الخارجية القسرية في هذا الصراع. سواء كانت هذه الخطوة ستحقق أهدافها المعلنة في حماية حرية التعبير الأمريكية، أو ستؤدي بدلا من ذلك إلى تصعيد التوترات وتقويض التعاون الدولي، يبقى أمرا يتعين رؤيته في الأشهر والسنوات القادمة.




.jpg)